الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***
{أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12)} {أفتمارونه على مَا يرى} أي أتكذبونه فتجادلونه على ما يراه معاينة فتمارونه عطف على محذوف على ما ذهب إليه الزمخشري من المراء وهو المجادلة واشتقاقه من مرى الناقة إذا مسح ظهرها وضرعها ليخرج لبنها وتدرّ به فشبه به الجدال لأن كلا من المتجادلين يطلب الوقوف على ما عند الآخر ليلزمه الحجة فكأنه يستخرج درّه. وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه. وعبد الله. وابن عباس. والجحدري. ويعقوب. وابن سعدان. وحمزة والكسائي. وخلف {أفتمارونه} بفتح التاء وسكون الميم مضارع مريت أي جحدت يقال: مريته حقه إذا جحدته، وأنشدوا لذلك قول الشاعر: لئن هجرت أخا صدق ومكرمة *** لقد (مريت)} أخا ما كان يمريكا أو مضارع مريته إذا غلبته في المراء على أنه من باب المغالبة، ويجوز حمل ما في البيت عليه وعدى الفعل بعلى وكان حقه أن يعدي بفي لتضمينه معنى المغالبة فإن المجادل والجاحد يقصدان بفعلهما غلبة الخصم، وقرأ عبد الله فيما حكى ابن خالويه. والشعبي فيما ذكر شعبة {أفتمارونه} بضم التاء وسكون الميم مضارع أمريت قال أبو حاتم: وهو غلط، والمراد بما يرى ما رآه من صورة جبريل عليه السلام، وعبر بالمضارع استحضاراً للصورة الماضية لما فيها من الغرابة، وفي البحر جيء بصيغة المضارع وإن كانت الرؤية قد مضت إشارة إلى ما يمكن حدوثه بعد، وقيل: المراد {أفتمارونه على مَا يرى} من الصور التي يظهر بها جبريل عليه السلام بعد ما رآه قبل وحققه بحيث لا يشتبه عليه بأي صورة ظهر فالتعبير بالمضارع على ظاهره.
{وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)} {وَلَقَدْ رَءاهُ} أي رأى النبي جبريل صلى الله عليه وسلم في صورته التي خلقه الله تعالى عليها {نَزْلَةً أخرى} أي مرة أخرى من النزول وهي فعلة من النزول أقيمت مقام المرة ونصبت نصبها على الظرفية لأن أصل المرة مصدر مرّ يمر ولشدة اتصال الفعل بالزمان يعبر به عنه ولم يقل مرة بدلها ليفيد أن الرؤية في هذه المرة كانت بنزول ودنو كالرؤية في المرة الأولى الدال عليها ما مر. وقال الحوفي. وابن عطية: إن نزلة منصوب على المصدرية للحال المقدرة أي نازلا نزلة، وجوز أبو البقاء كونه منصوباً على المصدرية لرأي من معناه أي رؤية أخرى وفيه نطر، والمراد من الجملة القسمية نفي الريبة والشك عن المرة الأخيرة وكانت ليلة الإسراء.
{عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14)} {عِندَ سِدْرَةِ المنتهى} هي شجرة نبق عن يمين العرش في السماء السابعة على المشهور، وفي حديث أخرجه أحمد. ومسلم. والترمذي. وغيرهم في السماء السادسة نبقها كقلال هجرو أوراقها مثل آذان الفيلة يسير الراكب في ظلها سبعين عاماً لا يقطعها، وأخرج الحاكم وصححه عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما مرفوعاً " يسير الراكب في الفنن منها مائة سنة " والأحاديث ظاهرة في أنها شجرة نبق حقيقة. والنبات في الشاهد يكون ترابياً ومائياً وهوائياً؛ ولا يبعد من الله تعالى أن يخلقه في أي مكان شاء وقد أخبر سبحانه عن شجرة الزقوم أنها تنبت في أصل الجحيم، وقيل: إطلاق السدرة عليها مجاز لأنها تجتمع عندها الملائكة عليهم السلام كما يجتمع الناس في ظل السدرة، و{المنتهى} اسم مكان وجوز كونه مصدراً ميمياً، وقيل: لها {سِدْرَةِ المنتهى} لأنها كما أخرج عبد بن حميد. وابن أبي حاتم عن ابن عباس إليها ينتهي علم كل عالم وما وراءها لا يعلمه إلا الله تعالى، أو لأنها ينتهي إليها علم الأنبياء عليهم السلام ويعزب علمهم عما وراءها. أو لأنها تنتهي إليها أعمال الخلائق بأم تعرض الله تعالى عندها؛ أو لأنها ينتهي إليها ما ينزل من فوقها وما يصعد من تحتها. أو لأنها تنتهي إليها أرواح الشهداء أو أرواح المؤمنين مطلقاً. أو لانتهاء من رفع إليها في الكرامة. وفي الكشاف كأنها منتهى الجنة وآخرها، وإضافة {سِدْرَةِ} إلى المنتهى} من إضافة الشيء لمحله كما في أشجار البستان، وجوز أن تكون من إضافة المحل إلى الحال كما في قولك «كتاب الفقه»، وقيل: يجوز أن يكون المراد بالمنتهى الله عز وجل فالإضافة من إضافة الملك إلى المالك أي {} من إضافة الشيء لمحله كما في أشجار البستان، وجوز أن تكون من إضافة المحل إلى الحال كما في قولك «كتاب الفقه»، وقيل: يجوز أن يكون المراد بالمنتهى الله عز وجل فالإضافة من إضافة الملك إلى المالك أي {سِدْرَةِ} الله الذي إليه {المنتهى} كما قال سبحانه: {وَأَنَّ إلى رَبّكَ المنتهى} [النجم: 42] وعد ذلك من باب الحذف والإيصال ولا يخفى أن هذا القول يكاد يكون المنتهى في البعد.
{عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15)} {عِندَهَا} أي عند السدرة، وجوز أن يكون الضمير للنزلة وهو نازل عن رتبة القبول {جَنَّةُ المأوى} التي يأوي إليها المتقون يوم القيامة كما روي عن الحسن، واستدل به على أن الجنة في السماء، وقال ابن عباس بخلاف عنه. وقتادة: هي جنة تأوي إليها أرواح الشهداء وليست بالتي وعد المتقون، وقيل: هي جنة تأوي إليها الملائكة عليهم السلام والأول أظهر، والمأوى على ما نص عليه الجمهور اسم مكان وإضافة الجنة إليه بيانية، وقيل: من إضافة الموصوف إلى الصفة كما في مسجد الجامع، وتعقب بأن اسم المكان لا يوصف به، والجلمة حالية، وقيل: الحال هو الظرف، و{جَنَّةُ} مرتفع به على الفاعلية، وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه. وأبو الدرداء. وأبو هريرة. وابن الزبير. وأنس. وزر. ومحمد بن كعب. وقتادة: {جَنَّةُ} بها الضمير وهو ضمير النبي صلى الله عليه وسلم، وجن فعل ماض أي عندها سترة إيواء الله تعالى، وجميل صنعه به، أو ستره المأوى بظلاله ودخل فيه على أن {المأوى} مصدر ميمي، أو اسم مكان، وجنة بمعنى ستره، قال أبو البقاء: شاذوا لمستعمل أجنة، ولهذا قالت عائشة رضي الله تعالى عنها. وكذا جمع من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين: من قرأ به فأجنة الله تعالى أي جعله مجنوناً أو أدخله الجنن وهو القبر، وأنت تعلم أنه إذا صح أنه قرأ به الأمير كرم الله تعالى وجهه ومن معه من أكابر الصحابة فليس لأحد رده من حيث الشذوذ في الاستعمال، وعائشة قد حكى عنها الإجازة أيضاً.
{إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16)} {إِذْ يغشى السدرة مَا يغشى} متعلق برآه، وقيل: بما بعد من الجملة المنفية ولا يضر التقدم على {مَا} النافية للتوسع في الظرف والغشيان بمعنى التغطية والستر، ومنه الغواشى أو بمعنى الاتيان يقال فلان يغشى زيداً كل حين أي يأتيه. والأول هو الأليق بالمقام، وفي إبهام {مَا يغشى} من التفخيم ما لا يخفى فكأن الغاشي أمر لا يحيط به نطاق البيان ولا تسعه أردان الأذهان، وصيغة المضارع لحاكية الحالة الماضية استحضاراً لصورتها البديعة، وجوز أن يكون للإيذان باستمرار الغشيان بطريق التجدد، وورد في بعض الأخبار تعيين هذا الغاشي، فعن الحسن غشيها نور رب العزة جل شأنه فاستنارت. ونحوه ما روي عن أبي هريرة يغشاها نور الخلاق سبحانه، وعن ابن عباس غشيها رب العزة عز وجل وهو من التشابه، وقال ابن مسعود. ومجاهد. وإبراهيم: يغشاها جراد من ذهب، وروي عن مجاهد أن ذلك تبدل أغصانها لؤلؤاً وياقوتاً وزبر جداً. وأخرج عبد بن حميد عن سلمة قال: استأذنت الملائكة الرب تبارك وتعالى أن ينظروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأذن لهم فغشيت الملائكة السدرة لينظروا إليه عليه الصلاة والسلام، وفي حديث «رأيت على كل ورقة من ورقة ملكاً قائماً يسبح الله تعالى وقيل: يغشاها رفرف من طير خضر، والإبهام على هذا كله على نحو ما تقدم.
{مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17)} {مَا زَاغَ البصر} أي ما مال بصر رسول الله صلى الله عليه وسلم عما رآه {وَمَا طغى} وما تجاوزه بل أثبته إثباتاً صحيحاً مستيقناً، وهذا تحقيق للأمر ونفي لريب عنه، أو ما عدل عن رؤية العجائب التي أمر برؤيتها وما جاوزها إلى ما لم يؤمر برؤيته.
{لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)} {لَقَدْ رأى مِنْ ءايات رَبّهِ الكبرى} أي والله لقد رأى الآيات الكبرى من آياته تعالى وعجائبه الملكية والملكوتية ليلة المعراج فالكبرى صفة موصوف محذوف مفعول لرأي أقيمت مقامه بعد حذفه وقدر مجموعاً ليطابق الواقع، وجوز أن تكون {الكبرى} صفة المذكور على معنى، و{مَا رأى} بعضاً من الآيات الكبرى، ورجح الأول بأن المقام يقتضي التعظيم والمبالغة فينبغي أن يصرح بأن المرأى الآيات الكبرى وجوز الوصفية المذكورة مع كون من مزيدة، وأنت تعلم أن زيادة من في الإثبات ليس محمعاً على جوازه، وجاء في بعض الأخبار تعيين ما رأى عليه الصلاة والسلام، أخرج البخاري. وابن جرير. وابن المنذر. وجماعة عن ابن مسعود أنه قال في الآية رأى رفرفا أخضر من الجنة قد سد الأفق. وعن ابن زيد رأى جبريل عليه السلام في الصورة التي هو بها، والذي ينبغي أن لا يحمل ذلك على الحصر كما لا يخفى فقد رأى عليه الصلاة والسلام آيات كبرى ليلة المعراج لا تحصى ولا تكاد تستقصى. هذا وفي الآيات: أقوال غير ما تقدم، فعن الحسن أن {شَدِيدُ القوى} [النجم: 5] هو الله تعالى، وجمع {القوى} للتعظيم ويفسر {ذُو مِرَّةٍ} عليه بذي حكمة ونحوه مما يليق أن يكون وصفا له عز وجل، وجعل أبو حيان الضميرين في قوله تعالى: {فاستوى وَهُوَ بالافق الاعلى} [النجم: 6، 7] عليه له سبحانه أيضاً. وقال: إن ذلك على معني العظمة والقدرة والسلطان، ولعل الحسن يجعل الضمائر في قوله سبحانه: {ثُمَّ دَنَا فتدلى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أدنى فأوحى إلى عَبْدِهِ مَا أوحى} [النجم: 8 10] له عز وجل أيضاً، وكذا الضمير المنصوب في قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَءاهُ نَزْلَةً أخرى} [النجم: 13] فقد كان عليه الرحمة يحلف بالله تعالى، لقد رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه وفسر دنوه تعالى من النبي صلى الله عليه وسلم برفع مكانته صلى الله عليه وسلم عنده سبحانه وتدليله جل وعلا بجذبه بشراشره إلى جانب القدس، ويقال لهذا الجذب: الفناء في الله تعالى عند المتأهلين، وأريد بنزوله سبحانه نوع من دنوه المعنوي جل شأنه. ومذهب السلف في مثل ذلك إرجاع علمه إلى الله تعالى بعد نفي التشبيه، وجوز أن تكون الضمائر في {دَنَا فتدلى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أدنى} [النجم: 8، 9] على ما روي عن الحسن للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد ثم دنا النبي عليه الصلاة والسلام من ربه سبحانه فكان منه عز وجل {قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أدنى} والضمائر في {فأوحى} الخ لله تعالى، وقيل: {إلى عَبْدِهِ} ولم يقل إليه للتفخيم، وأمر المتشابه قد علم، وذهب غير واحد في وقوله تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ القوى} [النجم: 5] إلى قوله سبحانه: {وَهُوَ أَنتَ الاعلى} [النجم: 7] إلى أنه في أمر الوحى وتلقيه من جبريل عليه السلام على ما سمعت فيما تقدم، وفي قوله تعالى: {ثُمَّ دَنَا فتدلى} الخ إلى أنه في أمر العروج إلى الجناب الأقدس ودنوه سبحانه منه صلى الله عليه وسلم ورؤيته عليه السلام إياه جل وعلا فالضمائر في {دَنَا} وكان و{مَا أوحى} وكذا الضمير المنصوب في {رَّءاهُ} لله عز وجل، ويشهد لهذا ما في حديث أنس عند البخاري من طريق شريك بن عبد الله «ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله جتى جاء سدرة المنتهى ودنا الجبار رب العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى فأوحى إليه فيما أوحى خمسين صلاة» الحديث، فأنه ظاهر فيما ذكر. واستدل بذلك مثبتو الرؤية كحبر الأمة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره، وادعت عائشة رضي الله تعالى عنها خلاف ذلك، أخرج مسلم عن مسروق قال: «كنت متكئا عند عائشة فقالت: يا أبا عائشة ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله تعالى الفرية قلت ما هن؟ قالت: من زعم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية، قال: وكنت متكئاً فجلست فقلت: يا أم المؤمنين أنظريني ولا تعجليني ألم يقل الله تعالى: {وَلَقَدْ رَءاهُ بالافق المبين} [التكوير: 23] {وَلَقَدْ رَءاهُ نَزْلَةً أخرى} [النجم: 13]؟ فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لا إنما هو جبريل لم أره على صورته الذي خلق عليها غير هاتين المرتين رأيته منهبطاً من السماء ساداً عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض» الحديث، وفي رواية ابن مردويه من طريق أخرى عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن مسروق «فقالت: أنا أول من سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا فقلت: يا رسول الله هل رأيت ربك؟ فقال: إنما رأيت جبريل منهبطاً» ولا يخفى أن جواب رسول الله عليه الصلاة والسلام ظاهر في أن الضمير المنصوب في {رَّءاهُ} ليس راجعاً إليه تعالى بل إلى جبريل عليه السلام، وشاع أنها تنفى أن يكون صلى الله عليه وسلم رأى ربه سبحانه مطلقاً، وتستدل لذلك بقوله تعالى: {لاَّ تُدْرِكُهُ الابصار وَهُوَ يُدْرِكُ الابصار} [الأنعام: 103] وقوله سبحانه: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً} [الشورى: 51] وهو ظاهر ما ذكره البخاري في صحيحه في تفسير هذه السورة، وقال بعضهم: إنها إنما تنفي رؤية تدل عليها الآية التي نحن فيها وهي التي احتج بها مسروق. وحاصل ما روي عنها نفي صحة الاحتجاج بالآية المذكورة على رؤيته عليه الصلاة والسلام ربه سبحانه ببيان أن مرجع الضمير فيها إنما هو جبريل عليه السلام على ما يدل عليه جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها، وحمل قوله صلى الله عليه وسلم في جوابها «لا» على أنه نفي للرؤية المخصوصة وهي التي يظن دلالة الآية عليها ويرجع إلى نفي الدلالة ولا يلزم من انتفاء الخاص انتفاء المطلق، والانصاف أن الأخبار ظاهرة في أنها تنفي الرؤية مطلقاً، وتستدل عليه بالآيتين السابقتين، وقد أجاب عنهما مثبتو الرؤية بما هو مذكور في محله. والظاهر أن ابن عباس لم يقل بالرؤية إلآ عن سماع، وقد أخرج عنه أحمد أنه قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيت ربي " ذكره الشيخ محمد الصالحي الشامي تلميد الحافظ السيوطي في الآيات البينات وصححه، وجمع بعضهم بين قولي ابن عباس. وعائشة بأن قول عائشة محمول على نفي رؤيته تعالى في نوره الذي هو نوره المنعوت بأنه لا يقوم له بصر، وقول ابن عباس محمول على ثبوت رؤيته تعالى في نوره الذي لا يذهب بالأبصار بقرينة قوله في جواب غكرمة عن قوله تعالى: {لاَّ تُدْرِكُهُ الابصار} [الأنعام: 103] ويحك ذاك إذا تجلى بنوره الذي هو نوره، وبه يظهر الجمع بين حديثي أبي ذر، أخرج مسلم من طريق يزيد بن إبراهيم عن قتادة عن عبد الله بن شقيق عن أبي ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك؟ قال: " نوراني أراه " ومن طريق هشام. وهمام كلاهما عن قتادة عن عبد الله قال: قلت لأبي ذر لو رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لسألته فقال: عن أي شيء كنت تسأله؟ قال: كنت أسأله هل رأيت ربك؟ فقال أبو ذر: قد سألته فقال: " رأيت نوراً " فيحمل النور في الحديث الأول على النور القاهر للأبصار بجعل التنوين للنوعية أو للتعظيم، والنور في الثاني على ما لا يقوم له البصر والتنوين للنوعية، وإن صحت رواية الأول كما حكاه أبو عبد الله المازري بلفظ «نوراني» بفتح الراء وكسر النون وتشديد الياء لم يكن اختلاف بين الحديثين ويكون نوراني بمعنى المنسوب إلى النور على خلاف القياس ويكون المنسوب إليه هو نوره الذي هو نوره، والمنسوب هو النور المحمول على الحجاب حمل مواطأة في حديث السبحات في قوله عليه الصلاة والسلام: " حجابه النور " وهو النور المانع من الإحراق الذي يقوم له البصر. ثم إن القائلين بالرؤية اختلفوا، فمنهم من قال: إنه عليه الصلاة والسلام رأى ربه سبحانه بعينه، وروي ذلك ابن مردويه عن ابن عباس، وهو مروى أيضاً عن ابن مسعود. وأبي هريرة. وأحمد بن حنبل، ومنهم من قال: رآه عز وجل بقلبه، وروي ذلك عن أبي ذر، أخرج النسائي عنه أنه قال: «رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه بقلبه ولم يره ببصره» وكذا روي عن محمد بن كعب القرظي بل أخرج عبد بن حميد. وابن المنذر. وابن أبي حاتم عنه أنه قال: قالوا: يا رسول الله رأيت ربك؟ قال: «رأيته بفؤادي مرتين ولم أره بعيني ثم قرأ ما كذب الفؤاد ما رأى» وفي حديث عن ابن عباس يرفعه «فجعل نور بصري في فؤادي فنظرت إليه بفؤادي» وكأن التقدير في الآية على هذا {مَا كَذَبَ الفؤاد فِيمَا *رأى} [النجم: 11]، ومنهم من ذهب إلى أن إحدى الرؤيتين كانت بالعين والأخرى الفؤاد وهي رواية عن ابن عباس، أخرج الطبراني. وابن مردويه عنه أنه قال: إن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه عز وجل مرتين مرة ببصره ومرة بفؤاده؛ ونقل القاضي عياض عن بعض مشايخه أنه توقف أي في الرؤية بالعين، وقال: إنه ليس عليه دليل واضح قال في الكشف. لأن الروايات مصرحة بالرؤية أما أنها بالعين فلا، وعن الإمام أحمد أنه كان يقول: إذا سئل عن الرؤية رآه رآه حتى ينقطع نفسه ولا يزيد على ذلك وكأنه لم يثبت عنده ما ذكرناه، واختلف فيما يقتضيه ظاهر النظم الجليل فجزم صاحب الكشف بأنه ما عليه الأكثرون من أن الدنو والتدلي مقسم ما بين النبي وجبريل صلاة الله تعالى وسلامه عليهما أي وأن المرئى هو جبريل عليه السلام، وإذا صح خبر جوابه عليه الصلاة والسلام لعائشة رضي الله تعالى عنها لم يكن لأحد محيص عن القول به، وقال العلامة الطيبي: الذي يقتضيه النظم إجراء الكلام إلى قوله تعالى: {وَهُوَ بالافق الاعلى} [النجم: 7] على أمر الوحي وتلقيه من الملك ورفع شبه الخصوم، ومن قوله سبحانه: {ثُمَّ دَنَا فتدلى} [النجم: 8] إلى قوله سبحانه: {مِنْ ءايات رَبّهِ الكبرى} [النجم: 18] على أمر العروج إلى الجناب الأقدس، ثم قال: ولا يخفى على كل ذي لب إباء مقام {فأوحى} الحمل على أن جبريل أوحى إلى عبد الله {مَا أوحى} إذ لا يذوق منه أرباب القلوب إلا معنى المناغاة بين المتسارين وما يضيق عنه بساط الوهم ولا يطيقه نطاق الفهم، وكلمة {ثُمَّ} على هذا للتراخي الرتبي والفرق بين الوحيين أن أحدهما وحى بواسطة وتعليم، والآخر بغير واسطة بجهة التكريم فيحل عنه عنده الترقي من مقام {وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} [الصافات: 164] إلى مخدع {قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أدنى} [النجم: 9] وعن جعفر الصادق عليه الرضا أنه قال: لما قرب الحبيب غاية القرب نالته غاية الهيبة فلاطفه الحق سبحانه بغاية اللطف لأنه لا تتحمل غاية الهيبة إلا بغاية اللطف، وذلك قوله تعالى: {فأوحى إلى عَبْدِهِ مَا أوحى} [النجم: 10] أي كان ما كان وجرى ما جرى قال الحبيب للحبيب ما يقول الحبيب لحبيه وألطف به إلطاف الحبيب بحبيبه وأسر إليه ما يسر الحبيب إلى حبيبه فأخفيا ولم يطلعا على سرهما أحداً وإلى نحو هذا يشير ابن الفارض بقوله: ولقد خلوت مع الحبيب وبيننا *** سرّ أرق من النسيم إذا سرى ومعظم الصوفية على هذا فيقولون بدنو الله عز وجل من النبي صلى الله عليه وسلم ودنوه منه سبحانه على الوجه اللائق وكذا يقولون بالرؤية كذلك، وقال بعضهم في قوله تعالى: {مَا زَاغَ البصر وَمَا طغى} [النجم: 17] ما زاغ بصر النبي صلى الله عليه وسلم وما التفت إلى الجنة ومزخرفاتها ولا إلى الجحيم وزفراتها بل كان شاخصاً إلى الحق {وَمَا طغى} عن الصراط المستقيم، وقال أبو حفص السهروردي: ما زاغ البصر حيث لم يتخلف عن البصيرة ولم يتقاصر {وَمَا طغى} لم يسبق البصر البصيرة ويتعدى مقامه، وقال سهل بن عبد الله التستري: لم يرجع رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى شاهد نفسه وإلى مشاهدتها وإنما كان مشاهداً لربه تعالى يشاهد ما يظهر عليه من الصفات التي أوجبت الثبوت في ذلك المحل، وأرجع بعضهم الضمير في قوله تعالى: {وَهُوَ أَنتَ الاعلى} [النجم: 7] إلى النبي عليه الصلاة والسلام وهو منتهى وصول اللطائف، وفسر {سِدْرَةِ المنتهى} [النجم: 14] بما يكون منتهى سير السالكين إليه ولا يمكن لهم جاوزته إلا بجذبة من جذبات الحق، وقالوا في {قَابَ قَوْسَيْنِ} ما قالوا وأنا أقول برؤيته صلى الله عليه وسلم ربه سبحانه وبدنوه منه سبحانه على الوجه اللائق ذهبت فيما اقتضاه ظاهر النظم الجليل إلى ما قاله صاحب الكشف أم ذهبت فيه إلى ما قاله الطيبي فتأمل والله تعالى الموفق.
{أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20)} {أَفَرَءيْتُمُ اللات والعزى ومناة الثالثة الاخرى} هي أصنام كانت لهم فاللات كما قال قتادة: لثقيف بالطائف، وأنشدوا: وفرت ثقيف إلى (لاتها)} *** بمقلب الخائب الخاسر وقال أبو عبيدة. وغيره: كان بالكعبة، وقال ابن زيد: كان بنخلة عند سوق عكاظ يعبده قريش، ورجح ابن عطية قول قتادة، وقال أبو حيان: يمكن الجمع بأن يكون المسمى بذلك أصناماً فأخبر عن كل صنم بمكانه، والتاء فيه قيل: أصلية وهي لام الكلمة كالباء في باب، وألفه منقلبة فيما يظهر من ياء لأن مادة (لـ ي ت) موجودة فإن وجدت مادة (لـ وت) جاز أن تكون منقلبة من واو، وقيل: تاء العوض، والأصل لوية بزنة فعلة من لوى لأنهم كانوا يلوون عليه ويعتكفون للعبادة، أو يلتون عليه أي يطوفون فخفف بحذف الياء وأبدلت واوه ألفاً، وعوض عن الياء تاءاً فصارت كتاء أخت وبنت، ولذا وقف عليها بالتاء، وقرأ ابن عباس. ومجاهد. ومنصور بن المعتمر. وأبو صالح. وطلحة. وأبو الجوزاء. ويعقوب. وابن كثير في رواية بتشديد التاء على أنه اسم فاعل من لت يلت إذا عجن قيل: كان رجل يلت السويق للحاج على حجر فلما مات عبدوا ذلك الحجر إجلالاً له وسموه بذلك، وعن مجاهد أنه كان على صخرة في الطائف يصنع حيسا ويطعم من يمرّ من الناس فلما مات عبدوه، وأخرج ابن أبي حاتم. وابن مردويه عن ابن عباس أنه كان يلت السويق على الحجر فلا يشرب منه أحد إلا سمن فعبدوه، وأخرج الفاكهي عنه أنه لما مات قال لهم عمرو بن حلى: إنه لم يمت ولكنه دخل الصخرة فعبدوها وبنوا عليها بيتاً، وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال: كان رجل من ثقيف يلت السويق بالزيت فلما توفي جعلوا قبره وثناً، وزعم الناس أنه عامر بن الظرب أحد عدوان، وقيل: غير ذلك {والعزى} لغطفان وهي على المشهور سمرة بنخلة كما قال قتادة وأصلها تأنيث الأعز، وأخرج النسائي. وابن مردويه عن أبي الطفيل قال: «لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد إلى نخلة وكانت بها العزى فأتاها خالد وكانت ثلاث سمرات فقطع السماوات وهدم البيت الذي كان عليها ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: ارجع فإنك لم تصنع شيئاً فرجع خالد فلما أبصرته السدنة مضوا وهم يقولون يا عزي يا عزي فأتاها فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها تحثو التراب على رأسها فجعل يضربها بالسيف حتى قتلها ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال عليه الصلاة والسلام: تلك العزى» وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم بعث إليها خالداً فقطعها فخرجت منها شيطانة ناشرة شعرها داعية ويلها واضعة يدها على رأسها فضربها بالسيف حتى قتلها وهو يقول: يا عز كفرانك لا سبحانك *** إني رأيت الله قد أهانك ورجع فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام: «تلك العزى ولن تعبد أبداً» وقال ابن زيد: كانت العزى بالطائف، وقال أبو عبيدة: كانت بالكعبة، وأيده في البحر بقول أبي سفيان في بعض الحروب للمسلمين لنا العزى ولا عزى لكم؛ وذكر فيه أنه صنم وجمع بمثل ما تقدم، {ومناة} قيل: صخرة كانت لهذيل. وخزاعة، وعن ابن عباس لثقيف، وعن قتادة للأنصار بقديد، وقال أبو عبيدة: كانت بالكعبة أيضاً، واستظهر أبو حيان أنها ثلاثتها كانت فيها قال: لأن المخاطب في قوله تعالى: أفرأيتم قريش؟ وفيه بحث، ومناة مقصورة قيل: وزنها فعلة، وسميت بذلك لأن دماء النسائك كانت تمنى عندها أي تراق، وقرأ ابن كثير على ما في البحر مناءة بالمد والهمز كما في قوله: ألا هل أتي تميم بن عبد (مناءة)} *** على النأى فيما بيننا ابن تميم ووزنها مفعلة فالألف منقلبة عن واو كما في مقالة، والهمزة أصل وهي مشتقة من النوء كأنهم كانوا يستمطرون عندها الأنوار تبركاً بها، والظاهر أن (الثالثة الأخرى) صفتان لمناة وهما على ما قيل: للتأكيد فإن كونها ثالثة وأخرى مغايرة لما تقدمها معلوم غير محتاج للبيان، وقال بعض الأجلة: (الثالثة) للتأكيد، و( الأخرى) للذم بأنها متأخرة في الرتبة وضيعة المقدار، وتعقبه أبو حيان بأن آخر ومؤنثة أخرى لم يوضعا لذم ولا لمدح وإنما يدلان على معنى غير، والحق أن ذلك باعتبار المفهوم الأصلي وهي تدل على ذم السابقتين أيضاً قال في الكشف: هي اسم ذم يدل على وضاعة السابقتين بوجه أيضاً لأن {أخرى} تأنيث آخر تستدعي المشاركة مع السابق فإذا أتى بها لقصد التأخر في الرتبة عملاً بمفهومها الأصلي إذ لا يمكن العمل بالمفهوم العرفي لأن السابقتين ليستا ثالثة أيضاً استدعت المشاركة قضاءاً لحق التفضيل، وكأنه قيل: (الأخرى) في التأخر انتهى وهو حسن، وذكر في نكتة ذم مناة بهذا الذم أن الكفرة كانوا يزعمون أنها أعظم الثلاثة فأكذبهم الله تعالى بذلك. وقال الإمام: (الأخرى) صفة ذم كأنه قال سبحانه: (ومناة الثالثة) الذليلة وذلك لأن اللات كان على صورة آدمي {والعزى} صورة نبات {ومناة} صورة صخرة، فالآدمي أشرف من النبات، والنبات أشرف من الجماد فالجماد متأخر ومناة جماد فهي في أخريات المراتب، وأنت تعلم أنه لا يتأتى على كل الأقوال، وقيل: (الأخرى) صفة للعزى لأنها ثانية اللات، والثانية يقال لها (الأخرى) وأخرت لموافقة رؤوس الآي، وقال الحسن ابن المفضل: في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير والعزى الأخرى {ومناة الثالثة كَذَبَ الفؤاد مَا رأى أفتمارونه على مَا يرى وَلَقَدْ رَءاهُ نَزْلَةً أخرى عِندَ سِدْرَةِ المنتهى عِندَهَا جَنَّةُ المأوى إِذْ يغشى السدرة مَا يغشى مَا زَاغَ البصر وَمَا طغى لَقَدْ رأى مِنْ ءايات رَبّهِ الكبرى أَفَرَءيْتُمُ} الخ والهمزة للإنكار والفاء لتوجيهه إلى ترتيب الرؤية على ما ذكر من شؤون الله تعالى المنافية لها غاية المنافاة وهي علمية عند كثير، ومفعولها الثاني على ما اختاره بعضهم محذوف لدلالة الحال عليه، فالمعنى أعقيب ما سمعتم من آثار كمال عظمة الله عز وجل في ملكه وملكوته وجلاله وجبروته وإحكام قدرته ونفاذ أمره رأيتم هذه الأصنام مع غاية حقارتها بنات الله سبحانه وتعالى. وقوله تعالى:
{أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21)} {أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الانثى} توبيخ مبني على ذلك التوبيخ ومداره تفضيل جانب أنفسهم على جنابه عز وجل حيث جعلوا له تعالى الإناث واختاروا لأنفسهم الذكور، ومناط الأول نفس تلك النسبة، وقيل: المعنى {أَرَءيْتُمْ} هذه الأصنام مع حقارتها وذلتها شركاء لله سبحانه مع ما تقدم من عظمته، وقيل: المعنى اخبروني عن آلهتكم هل لها شيء من القدرة والعظمة التي وصف بها رب العزة في الآي السابقة، وقيل: المعنى أظننتم أن هذه الأصنام التي تعبدونها تنفعكم؛ وقيل المعنى {فرأيتم} هذه الأصنام إن عبدتموها لا تنفعكم وإن تركتموها لا تضركم، ولا يخفى أن قوله تعالى: {الاخرى أَلَكُمُ} الخ لا يلتئم مع ما قبله على جميع هذه الأقوال التئامة على القول السابق، وقيل: إن قوله سبحانه: {أَلَكُمُ} الخ في موضع المفعول الثاني للرؤية وخلوها عن العائد إلى المفعول الأول لما أن الأصل أخبروني أن اللات والعزى ومناة ألكم الذكر وله هن أي تلك الأصنام فوضع موضعها الأنثى لمراعاة الفواصل وتحقيق مناط التوبيخ وهو على تكلفه يقتضي اقتصار التوبيخ على ترجيح جانبهم الحقير الذليل على جناب الله تعالى العزيز الجليل من غير تعرض للتوبيخ على نسبة الولد إليه سبحانه، وفي الكشف وجه النظم الجليل أنه بعدما صور أمر الوحي تصويراً تاماً وحققه بأن ما يستمعه وحي لا شبهة فيه لأنه رأى الآتي به وعرفه حق المعرفة قال سبحانه: {أفتمارونه على مَا يرى} [النجم: 12] على معنى أتلاحونه بعد هذه البيانات على ما يرى من الآيات المحقق لأنه على بينة من ربه سبحانه هادياً مهدياً، وأني يبقى للمراء مجال وقد رآه نزلة أخرى؟ا وعرفه حق المعرفة، ثم قيل: {لَقَدْ رأى مِنْ ءايات} [النجم: 18] الخ تنبيهاً على أن ما عدّ منها فهو أيضاً نفي للضلالة والغواية وتحقيق للدراية والهداية. وقوله تعالى: {أَفَرَءيْتُمُ} [النجم: 19] عطف على تمارونه وإدخال الهمزة لزيادة الإنكار والفاء لأن القول بأمثاله مسبب عن الطبع والعناد وعدم الإصغاء لداعي الحق، والمعنى أبعد هذا البيان تستمرون على ما أنتم عليه من المراء فترون اللات والعزى ومناة أولاداً له تعالى ثم أخسها وسد مسد المفعول الثاني قوله تعالى: {أَلَكُمُ} الخ زيادة للإنكار فعلى هذا ليس {أَفَرَءيْتُمُ} في معنى الاستخبار وجاز أن يكون في معناه على معنى {أفتمارونه} فأخبروني هل لكم الذكر وله الأنثى، والقول مقدر أي فقل لهم أخبروني والمعنى هو كذا تهكماً وتنبيهاً على أنه نتيجة مرائهم وأن من كان هذا معتقده فهو على الضلال الذي لا ضلال بعده ولا يبعد عن أمثاله نسبة الهادين المهديين إلى ما هو فيه من النقص انتهى، وما ذكره أولاً أولى وهو ليس بالبعيد عما ذكرنا.
{تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22)} {تِلْكَ} إشارة إلى القسمة المنفهمة من الجملة الاستفهامية {إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى} أي جائرة حيث جعلتم له سبحانه ما تستنكفون منه وبذلك فسر ضيزى ابن عباس. وقتادة، وفي معناه قول سفيان منقوصة، وابن زيد مخالفة، ومجاهد. ومقاتل عوجاء، والحسن غير معتدلة، والظاهر أنه صفة، واختلف في يائه فقيل: منقلبة عن واو، وقيل: أصلية، ووزنه فعلى بضم الفاء كحبلى وأنثى، ثم كسرت لتسلم الياء كما فعل ذلك في بيض جمع أبيض فإن وزنه فعل بضم الفاء كحمر ثم كسرت الفاء لما ذكر ومثله شائع، ولم يجعل وزنه فعلى بالكسر ابتداءاً لما ذهب إليه سيبويه من أن فعلى بالكسر لم يجىء عن العرب في الصفات وجعله بعضهم كذلك متمسكاً بورود ذلك. فقد حكى ثعلب مشية حيكى، ورجل كيصى، وغيره امرأة عز هي وامرأة سعلى، ورد بأنه من النوادر والحمل على الكثير المطرد في بابه أولى، وأيضاً يمكن أن يقال في حيكى وكيصى ما قيل في ضيزى؛ ويمنع ورود عز هي وسعلى فإن المعروف عزهاة وسعلاة، وجوز أن يكون ضيزى فعلى بالكسر ابتداءاً على أنه مصدر كذكرى ووصف به مبالغة، ومجىء هذا الوصف في المصادر كما ذكر، والأسماء الجامدة كدفلى وشعرى، والجموع كحجلى كثير، وقرأ ابن كثير ضئزى بالهمز على أنه مصدر وصف به، وجوز أن يكون وصفاً وهو مضموم عومل معاملة المعتل لأنه يؤول إليه. وقرأ ابن زيد ضيزى بفتح الضاد وبالياء على أنه كدعوى أو كسكرى، ويقال ضؤزى بالواو والهمز وضم الفاء؛ وقد حكى الكسائي ضأز يضأز ضأزاً بالهمز وأنشد الأخفش: فإن تنأ عنها تقتنصك وإن تغب *** فسهمك (مضؤز) وأنفك راغم والأكثر ضاز بلا همز كما في قول امرىء القيس: (ضازت)} بنو أسد بحكمهم *** إذ يجعلون الرأس كالذنب وأنشده ابن عباس على تفسيره السابق.
{إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23)} {إِنْ هِىَ} الضمير للأصنام أي ما الأصنام باعتبار الألوهية التي تدعونها {إِلاَّ أَسْمَاء} محضة ليس فيها شيء مّا أصلاً من معنى الألوهية؛ وقوله تعالى: {سَمَّيْتُمُوهَا} صفة للأسماء وضميرها لها لا للأصنام، والمعنى جعلتموها أسماء فإن التسمية نسبة بين الاسم والمسمى فإذا قيست إلى الاسم فمعناها جعله اسماً للمسمى وإن قيست إلى المسمى فمعناها جعله مسمى للاسم وإنما اختير ههنا المعنى الأول من غير تعرض للمسمى لتحقيق أن تلك الأصنام التي يسمونها آلهة أسماء مجردة ليس لها مسميات قطعاً كما في قوله سبحانه: {مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء} [يوسف: 40] الآية لا أن هناك مسميات لكنها لا تستحق التسمية، وقيل: هي للأسماء الثلاثة المذكورة حيث كانوا يطلقونها على تلك الأصنام لاعتقادهم أنها تستحق العكوف على عبادتها والأعزاز والتقرب إليها بالقرابين، وتعقب بأنه لو سلم دلالة الأسماء المذكورة على ثبوت تلك المعاني الخاصة للأصنام فليس في سلبها عنها مزيد فائدة بل إنما هي في سلب الألوهية عنها كما هو زعمهم المشهور في حق جميع الأصنام على وجه برهاني فإن انتفاء الوصف بطريق الأولوية أي ما هي شيء من الأشياء إلا أسماء خالية عن المسميات وضعتموها {أَنتُمْ وَءابَاؤُكُمُ} بمقتضى الأهواء الباطلة {مَّا أَنزَلَ الله بِهَا مِن سلطان} برهان يتعلقون به {إِن يَتَّبِعُونَ} أي ما يتبعون فيما ذكر من التسمية والعمل بها {إِلاَّ الظن} إلا توهم أن ما هم عليه حق توهماً باطلاً، فالظن هنا مراد به التوهم وشاع استعماله فيه، ويفهم من كلام الراغب أن التوهم من أفراد الظن {وَمَا تَهْوَى الانفس} أي والذي تشتهيه أنفسهم الأمارة بالسوء على أن {مَا} موصولة وعائدها مقدر وأل في الأنفس للعهد، أو عوض عن المضاف إليه، وجوز كون {مَا} مصدرية وكذا جوز كون أل للجنس والنفس من حيث هي إنما تهوى غير الأفضل لأنها مجبولة على حب الملاذ وإنما يسوقها إلى حسن العاقبة العقل، والالتفات في {يَتَّبِعُونَ} إلى الغيبة للإيذان بأن تعداد قبائحهم اقتضى الإعراض عنهم، وحكاية جناياتهم لغيرهم، وقرأ ابن عباس. وابن مسعود. وابن وثاب. وطلحة. والأعمش وعيسى بن عمر تتبعون بتاء الخطاب {وَلَقَدْ جَاءهُم مّن رَّبّهِمُ الهدى} حال من ضمير.
{أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24)} {يَتَّبِعُونَ} مقررة لبطلان ما هم عليه من اتباع الظن والهوى، والمراد بالهدى الرسول صلى الله عليه وسلم أو القرآن العظيم على أنه بمعنى الهادي أو جعله هدى مبالغة أي ما يتبعون إلا ذلك، والحال لقد جاءهم من ربهم جل شأنه ما ينبغي لهم معه تركه واتباع سبيل الحق. وحاصله {يَتَّبِعُونَ} ذلك في حال ينافيه، وجوز أن تكون الجملة معترضة وهي أيضاً مؤكدة لبطلان ذلك {أَمْ للإنسان مَا تمنى} {أَمْ} منقطعة مقدرة ببل وهي للانتقال من بيان أن ما هم عليه غير مستند إلا إلى توهمهم وهوى أنفسهم إلى بيان أن ذلك مما لا يجدي نفعاً أصلاً؛ والهمزة وهي للإنكار والنفي أي بل ليس للإنسان كل ما يتمناه وتشتهيه نفسه، ومفاده قيل: رفع الإيجاب الكلي ومرجعه إلى سالبة جزئية، وإليه يشير قول بعضهم: المراد نفي أن يكون للكفرة ما كانوا يطمعون فيه من شفاعة الآلهة والظفر بالحسنى عند الله تعالى يوم القيامة وما كانوا يشتهونه من نزول القرآن على رجل من إحدى القريتين عظيم ونحو ذلك، ويفهم من كلام بعض المحققين أن المراد السلب الكلي، والمعنى لا شيء مما يتمناه الإنسان مملوكاً له مختصاً به يتصرف فيه حسب إرادته ويتضمن ذلك نفي أن يكون للكفرة ما ذكر وليس الإنسان خاصاً بهم كما قيل، وقوله تعالى:
{فَلِلَّهِ الْآَخِرَةُ وَالْأُولَى (25)} {فَلِلَّهِ الاخرة والاولى} تعليل لانتفاء ذلك فإن اختصاص ملك أمور الآخرة والأولى جميعاً به تعالى مقتض لانتفاء أن يكون للإنسان أمر من الأمور بل ما شاء الله تعالى له كان وما لم يشأ لم يكن، وقدمت الآخرة اهتماماً برد ما هو أهمّ أطماعهم عندهم من الفوز فيها، ولذا أردف ذلك بقوله تعالى:
{وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26)} {وَكَمْ مّن مَّلَكٍ فِى السماوات لاَ تُغْنِى *شفاعتهم شَيْئاً} وإقناطهم عما طمعوا به من شفاعة الملائكة عليهم السلام موجب لإقناطهم عن شفاعة الأصنام بطريق الأولوية {وَكَمْ} خبرية مفيدة للتكثير محلها الرفع على الابتداء، والخير الجملة المنفية، وجمع الضمير في شفاعتهم مع إفراد الملك باعتبار المعنى أي وكثير من الملائكة لا تغني شفاعتهم عند الله تعالى شيئاً من الإغناء في وقت من الأوقات {إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ الله} لهم في الشفاعة. {لِمَن يَشَاء} أن يشفعوا له {ويرضى} ويراه سبحانه أهلاً للشفاعة من أهل التوحيد والإيمان، وأما من عداهم من أهل الكفر والطغيان فهم من إذن الله تعالى بمعزل. وعنه بألف ألف منزل، وجوز أن يكون المراد إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء من الملائكة بالشفاعة ويراه عز وجل أهلاً لها، وأياً مّا كان فالمعنى على أنه إذا كان حال الملائكة في باب الشفاعة كما ذكر فما ظنهم بحال الأصنام، والكلام قيل من باب: على لاحب لا يهتدى بمناره *** فحاصله لا شفاعة لهم ولا غناء بدون أن يأذن الله سبحانه الخ، وقيل: هو وارد على سبيل الفرض فلا يخالف قوله تعالى: {مَن ذَا الذى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]، وقرأ زيد بن علي شفاعته بإفراد الشفاعة والضمير، وابن مقسم شفاعاتهم بجمعهما وهو اختيار صاحب الكامل أبي القاسم الهذلي، وأفردت الشفاعة في قراءة الجمهور قال أبو حيان: لأنها مصدر ولأنهم لو شفع جميعهم لواحد لم تغن شفاعتهم عنه شيئاً.
{إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27)} {إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالاخرة} وبما فيها من العقاب على ما يتعاطونه من الكفر والمعاصي {لَيُسَمُّونَ الملائكة} المنزهين عن سمات النقصان على الإطلاق {تَسْمِيَةَ الانثى} فإنهم كانوا يقولون الملائكة بنات الله سبحانه وتعالى عما يقولون، {والملئكة} في معنى استغراق المفرد فيكون التقدير ليسمون كل واحد من {الملائكة تَسْمِيَةَ الانثى} أي يسمونه بنتاً لأنهم إذا قالوا ذلك فقد جعلوا كل واحد منهم بنتاً، فالكلام على وزان كسانا الأمير حلة أي كسا كل واحد منا حلة، والإفراد لعدم اللبس، ولذا لم يقل تسمية الإناث فلا حاجة إلى تأويل الأنثى بالإناث ولا إلى كون المراد الطائفة الأنثى، وما ذكر أولاً قيل: مبني على أن تسمية الأنثى في «النظم الجليل» ليس نصباً على التشبيه وإلا فلا حاجة إليه أيضاً، وفي تعليق التسمية بعدم الإيمان بالآخرة إشعار بأنها في الشناعة والفظاعة واستتباع العقوبة في الآخرة بحيث لا يجترىء عليها إلا من لا يؤمن بها رأساً، وقوله تعالى:
{وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28)} {وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ} حال من فاعل {يسمون} [النجم: 27] وضمير به للمذكور من التسمية وبهذا الاعتبار ذكر، أو باعتبار القول أي يسمونهم إناثاً، والحال أنهم لا علم لهم بما يقولون أصلاً، وقرأ أبيّ بها أي بالتسمية، أو بالملائكة {الله إِن يَتَّبِعُونَ} أي ما يتبعون في ذلك {إِلاَّ الظن} أي التوهم الباطل {وَإِنَّ الظن} أي جنس الظن كما يلوح به الإظهار في موقع الإضمار، وقيل: الإظهار ليستقل الكلام استقلال المثل. {لاَ يُغْنِى مِنَ الحق شَيْئًا} من الإغناء فإن الحق الذي هو عبارة عن حقيقة الشيء وما هو عليه إنما يدرك إدراكاً معتداً به إذا كان عن يقين لا عن ظن وتوهم فلا يعتدّ بالظن في شأن المعارف الحقيقية أعني المطالب الاعتقادية التي يلزم فيها الجزم ولو لم يكن عن دليل، وإنما يعتدّ به في العمليات وما يؤدى إليها. وفسر بعضهم الحق بالله عز وجل لقوله سبحانه: {ذلك بِأَنَّ الله هُوَ الحق} [الحج: 6]، واستدل بالآية من لم يعتبر التقليد في الاعتقاديات وفيه بحث والظاهرية على إبطاله مطلقاً، وإبطال القياس ورده على أتم وجه في الأصول، وما أخرج ابن أبي حاتم عن أيوب قال: قال عمر بن الخطاب: احذروا هذا الرأي على الدّين فإنما كان الرأي من رسول الله صلى الله عليه وسلم مصيباً لأن الله تعالى كان يريه وإنما هو منا تكلف وظن {وَإِنَّ الظن لاَ يُغْنِى مِنَ الحق شَيْئاً} هو أحد أدلتهم على إبطال القياس أيضاً، وقد حكى الآمدي في الأحكام نحوه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما فقال: قال ابن عمر: اتهموا الرأي عن الدّين فإن الرأي منا تكلف وظن {وَإِنَّ الظن لاَ يُغْنِى مِنَ الحق شَيْئاً} وأجاب عنه بأن غايته الدلالة على احتمال الخطأ فيه وليس فيه ما يدل على إبطاله، وأن المراد بقوله: {إَنَّ الظن} الخ استعمال الظن في مواضع اليقين وليس المراد به إبطال الظن بدليل صحة العمل بظواهر الكتاب والسنة، ويقال نحو هذا في كلام عمر رضي الله تعالى عنه، وقد ذكر جملة من الآثار استدل بها المبطل على ما زعمه وردها كلها فمن أراد ذلك فليراجعه.
{فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29)} {فَأَعْرِضْ عَن مَّن تولى عَن ذِكْرِنَا} أي عنهم ووضع الموصول موضع ضميرهم للتوسل به إلى وصفهم بما في حيز صلته من الأوصاف القبيحة، وتعليل الحكم بها أي فأعرض عمن أعرض عن ذكرنا المفيد للعلم الحق وهو القرآن العظيم. المنطوي على بيان الاعتقادات الحقة. المشتمل على علوم الأولين والآخرين. المذكر للآخرة وما فيها من الأمور المرغوب فيها والمرهوب عنها، والمراد بالإعراض عنه ترك الأخذ بما فيه وعدم الاعتناء به، وقيل: المراد بالذكر الرسول صلى الله عليه وسلم وبالإعراض عنه ترك الأخذ بما جاء به، وقيل: المراد به الإيمان، وقيل: هو على ظاهره والإعراض عنه كناية عن الغفلة عنه عز وجل {وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الحياة الدنيا} راضياً بها قاصراً نظره عليها جاهداً فيما يصلحها كالنضر بن الحرث. والوليد بن المغيرة، والمراد من الأمر المذكور النهي عن المبالغة في الحرص على هداهم كأنه قيل: لا تبالغ في الحرص على هدى من تولى عن ذكرنا وانهمك في الدنيا بحيث كانت منتهى همته وقصارى سعيه، وقوله تعالى:
{ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30)} {ذلك} أي أمر الحياة الدنيا المفهوم من الكلام ولذا ذكر اسم الإشارة، وقيل: أي ما أداهم إلى ما هم فيه من التولي وقصر الإرادة على الحياة الدنيا، وقيل: ذلك إشارة إلى الظن الذي يتبعونه، وقيل: إلى جعلهم الملائكة بنات الله سبحانه وكلا القولين كما ترى {مَبْلَغُهُمْ مّنَ العلم} أي منتهى علمهم لا علم لهم فوقه اعتراض مقرر لمضمون ما قبلها من قصر الإرادة على الحياة الدنيا. والمراد بالعلم مطلق الإدراك المنتظم للظن الفاسد، وضمير {مَبْلَغُهُمْ} لمن وجمع باعتبار معناه كما أن إفراده قبل باعتبار لفظه، وقوله سبحانه: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهتدى} تعليل للأمر بالإعراض، وتكرير قوله تعالى: {هُوَ أَعْلَمُ} لزيادة التقرير والإيذان بكمال تباين المعلومين، والمراد {بِمَن ضَلَّ} من أصر على الضلال ولم يرجع إلى الهدى أصلاً، و{بِمَنِ اهتدى} من شأنه الاهتداء في الجملة، أي هو جل شأنه المبالغ في العلم بمن لا يرعوي عن الضلال أبداً، وبمن يقبل الاهتداء في الجملة لا غيره سبحانه فلا تتعب نفسك في دعوتهم ولا تبالغ في الحرص عليها فإنهم من القبيل الأول، وقوله تعالى:
{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)} {وَللَّهِ مَا فِى السماوات وَمَا فِي الارض} أي له ذلك على الوجه الأتم أي خلقاً وملكاً لا لغيره عز وجل أصلاً لا استقلالاً ولا اشتراكاً، ويشعر بفعل يتعلق به قوله تعالى: {لِيَجْزِىَ الذين فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ} أي خلق ما فيهما ليجزي الضالين بعقاب ما عملوا من الضلال الذي عبر عنه بالإساءة بياناً لحاله؛ أو بمثل ما عملوا، أو بسبب ما عملوا على أن الباء صلة الجزاء بتقدير مضاف أو للسببية بلا تقدير {وَيِجْزِى الذين أَحْسَنُواْ} أي اهتدوا {بالحسنى} أي بالمثوبة الحسنى التي هي الجنة، أو بأحسن من أعمالهم أو بسبب الأعمال الحسنى تكميل لما قبل لأنه سبحانه لما أمره عليه الصلاة والسلام بالإعراض نفي توهم أن ذلك لأنهم يتركون سدى، وفي العدول عن ضمير ربك إلى الاسم الجامع ما ينبىء عن زيادة القدرة وأن الكلام مسوق لوعيد المعرضين وأن تسوية هذا الملك العظيم لهذه الحكمة فلا بدّ من ضال ومهتد، وَمِن أن يلقى كل ما يستحقه، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم يلقى الحسنى جزاءاً لتبليغه وهم يلقون السوأى جزاءاً لتكذيبهم، وكرر فعل الجزاء لإبراز كمال الاعتناء به والتنبيه على تباين الجزاءين. وجوز أن يكون معنى {فَأَعْرَضَ} [النجم: 29] الخ لا تقابلهم بصنيعهم وكلهم إلى ربك أنه أعلم بك وبهم فيجزى كلاً ما يستحقه، ولا يخفى ما في العدول عن الضميرين في {بِمَن ضَلَّ} {وَبِمَن اهتدى} [النجم: 30] وجعل قوله تعالى: {لِيَجْزِىَ} على هذا متعلقاً بما يدل عليه قوله تعالى: {إِنَّ رَّبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ} الخ أي ميز الضال عن المهتدي وحفظ أحوالهم {لِيَجْزِىَ} الخ، وقوله سبحانه: {وَللَّهِ مُلْكُ السموات} جملة معترضة تؤكد حديث أنهم يجزون البتة ولا يهملون كأنه قيل: هو سبحانه أعلم بهم وهم تحت ملكه وقدرته، وجوز على ذلك المعنى أن يتعلق {لِيَجْزِىَ} بقوله تعالى: {وَللَّهِ مَا فِى السموات} كما تقدم على تأكيد أمر الوعيد، أي هو أعلم بهم وإنما سوي هذا الملك للجزاء، ورجح بعضهم ذلك المعنى بالوجهين المذكورين على ما مرّ، وجوز في جملة {للَّهِ مَا فِى السموات} كونها حالاً من فاعل أعلم سواء كان بمعنى عالم أولاً، وفي {لِيَجْزِىَ} تعلقه بضل. واهتدى على أن اللام للعاقبة أي هو تعالى {أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ} ليؤول أمره إلى أن يجزيه الله تعالى بعمله، و{بِمَنِ اهتدى} ليؤول أمره إلى أن يجزيه بالحسنى، ولا يخفى بعده، وأبعد منه بمراحل تعلقه بقوله سبحانه: {لاَ تُغْنِى شفاعتهم} [النجم: 26] كما ذكره مكي، وقرأ زيد بن علي لنجزى ونجزى بالنون فيهما {الذين يَجْتَنِبُونَ كبائر الإثم} بدل من الموصول الثاني وصيغة الاستقبال في صلته للدلالة على تجدد الاجتناب واستمراره. أو بيان. أو نعت. أو منصوب على المدح. أو مرفوع على أنه خبر محذوف؛ و{الإثم} الفعل المبطىء عن الثواب وهو الذنب. وكبائره ما يكبر عقابه، وقرأ حمزة. والكسائي. وخلف كبير الاثم على إرادة الجنس، أو الشرك {والفواحش} ما عظم قبحه من الكبائر فعطفه على ما تقدم من عطف الخاص على العام، وقيل: الفواحش والكبائر مترادفان {إِلاَّ اللمم} ما صغر من الذنوب وأصله ما قل قدره، ومنه لمَةُ الشعر لأنها دون الوفرة، وفسره أبو سعيد الخدري بالنظرة. والغمزة. والقبلة وهو من باب التمثيل، وقيل: معناه الدنو من الشيء دون ارتكاب له من ألممت بكذا أي نزلت به وقاربته من غير مواقعة وعليه قول الرماني هو الهمّ بالذنب وحديث النفس دون أن يواقع، وقول ابن المسيب: ما خطر على القلب، وعن ابن عباس. وابن زيد هو ما ألموا به من الشرك والمعاصي في الجاهلية قبل الإسلام، والآية نزلت لقول الكفار للمسلمين قد كنتم بالأمس تعملون أعمالنا فهي مثل قوله تعالى: {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاختين إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23] على ما في «البحر»، وقيل: هو مطلق الذنب. وفي رواية عن ابن عباس أنه ما يلم به المرء في الحين من الذنوب ثم يتوب، والمعظم على تفسيره بالصغائر والاستثناء منقطع، وقيل: إنه لا استثناء فيه أصلاً، و{إِلا} صفة بمعنى غير إما لجعل المضاف إلى المعرف باللام الجنسية أعني كبائر الاثم في حكم النكرة، أو لأن غير و{إِلا} التي بمعناها قد يتعرفان بالإضافة كما في {غَيْرِ المغضوب} [الفاتحة: 7] وتعقبه بعضهم بأن شرط جواز وقوع {إِلا} صفة كونها تابعة لجمع منكر غير محصور ولم يوجد هنا، ورد بأن هذا ما ذهب إليه ابن الحاجب، وسيبويه يرى جواز وقوعها صفة مع جواز الاستثناء فهو لا يشترط ذلك، وتبعه أكثر المتأخرين، نعم كونها هنا صفة خلاف الظاهر ولا داعي إلى ارتكابه، والآية عند الأكثرين دليل على أن المعاصي منها كبائر ومنها صغائر وأنكر جماعة من الأئمة هذا الانقسام وقالوا: سائر المعاصي كبائر، منهم الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني، والقاضي أبو بكر البلاقلاني، وإمام الحرمين في «الإرشاد»، وتقي الدين السبكي. وابن القشيري في المرشد بل حكاه ابن فورك عن الأشاعرة. واختاره في تفسيره فقال معاصي الله تعالى كلها عندنا كبائر وإنما يقال لبعضها صغيرة وكبيرة بالإضافة، وحكى الانقسام عند المعتزلة، وقال: إنه ليس بصحيح، وقال القاضي عبد الوهاب: لا يمكن أن يقال في معصية إنها صغيرة إلا على معنى أنها تصغر باجتناب الكبائر ويوافق ذلك ما رواه الطبراني عن ابن عباس لكنه منقطع أنه ذكر عنده الكبائر فقال: كل ما نهى الله تعالى عنه فهو كبيرة، وفي رواية كل شيء عصى الله تعالى فيه فهو كبيرة، والجمهور على الانقسام قيل: ولا خلاف في المعنى، وإنما الخلاف في التسمية، والإطلاق لإجماع الكل على أن من المعاصي ما يقدح في العدالة ومنها ما لا يقدح فيها وإنما الأولون فروا من التسمية فكرهوا تسمية معصية الله تعالى صغيرة نظراً إلى عظمة الله عز وجل وشدة عقابه سبحانه وإجلالاً له جل شأنه عن تسمية معصيته صغيرة لأنها بالنظر إلى باهر عظمته كبيرة أيّ كبيرة، ولم ينظر الجمهور إلى ذلك لأنه معلوم؛ وقسموها إلى ما ذكر لظواهر الآيات والأحاديث ولذلك قال الغزالي: لا يليق إنكار الفرق بين الكبائر والصغائر وقد عرفنا من مدارك الشرع، ثم القائلون بالفرق اختلفوا في حد الكبيرة فقيل: هي ما لحق صاحبها عليها بخصوصها وعيد شديد بنص كتاب أو سنة وهي عبارة كثير من الفقهاء، وقيل: كل معصية أوجبت الحدّ وبه قال البغوي. وغيره والأول أوفق لما ذكروه في تفصيل الكبائر إذ عدوا الغيبة والنميمة والعقوق وغير ذلك منها ولا حدّ فيه فهو أصح من الثاني وإن قال الرافعي: إنهم إلى ترجيحه أميل، وقد يقال: يرد على الأول أيضاً أنهم عدوا من الكبائر ما لم يرد فيه بخصوصه وعيد شديد. وقيل: هي كل ما نص الكتاب على تحريمه أو وجب في جنسه حدّ وترك فريضة تجب فوراً والكذب في الشهادة والرواية واليمين، زاد الهروي. وشريح وكل قول خالف الإجماع العام، وقيل: كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة وهو المحكي عن إمام الحرمين، ورجحه جمع لما فيه من حسن الضبط، وتعقب بأنه بظاهره يتناول صغيرة الخسة، والإمام كما قال الأذرعي إنما ضبط به ما يبطل العدالة من المعاصي الشاملة لذلك لا الكبيرة فقط، نعم هو أشمل من التعريفين الأولين، وقيل: هي ما أوجب الحدّ أو توجه إليه الوعيد ذكره الماوردي في فتاويه، وقيل: كل محرم لعينه منهي عنه لمعنى في نفسه فإن فعله على وجه يجمع وجهين أو وجوهاً من التحريم كان فاحشة، فالزنا كبيرة وبحليلة الجار فاحشة والصغيرة تعاطي ما تنقص رتبته عن رتبته المنصوص عليه. أو تعاطيه على وجه دون المنصوص عليه فإن تعاطاه على وجه يجمع وجهين أو أكثر من التحريم كان كبيرة. فالقبلة. واللمس. والمفاخذة صغيرة، ومع حليلة الجار كبيرة كذا نقله ابن الرفعة وغيره عن القاضي حسين عن الحليمي، وقيل: هي كل فعل نص الكتاب على تحريمه أي بلفظ التحريم وهو أربعة أشياء، أكل الميتة، ولحم الخنزير، ومال اليتيم، والفرار من الزحف ورد بمنع الحصر، وقيل: إنها كل ذنب قرن به حدّ، أو وعيد. أو لعن بنص كتاب. أو سنة. أو علم أن مفسدته كمفسدة ما قرن به ذلك. أو أكثر. أو أشعر بتهاون مرتكبه في دينه إشعاراً صغر الكبائر المنصوص عليها بذلك كما لو قتل من يعتقده معصوماً فظهر أنه مستحق لدمه أو وطىء امرأة ظاناً أنه زان بها فإذا هي زوجته أو أمته، وإليه ذهب شيخ الإسلام البارزي وقال: هو التحقيق؛ وقيل: غير ذلك، واعتمد الواحدي أنها لا حدّ لها يحصرها فقال: الصحيح أن الكبيرة ليس لها حدّ يعرفها العباد به وإلا لاقتحم الناس الصغائر واستباحوها ولكن الله تعالى أخفى ذلك عنهم ليجتهدوا في اجتناب المنهي عنه رجاء أن تجتنب الكبائر، ونظير ذلك إخفاء الاسم الأعظم. والصلاة الوسطى. وليلة القدر. وساعة الإجابة، وقال العلامة ابن حجر الهيتمي: كل ما ذكر من الحدود إنما قصد به التقريب فقط وإلا فهي ليست بحدود جامعة، وكيف يمكن ضبط ما لا مطمع في ضبطه؟ وذهب جمع إلى تعريفها بالعدّ، فعن ابن عباس أنها ما ذكره الله تعالى في أول سورة النساء إلى قوله سبحانه: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ} [النساء: 31]. وقيل: هي سبع وروي ذلك عن علي كرم الله تعالى وجهه. وعطاء. وعبيد بن عمير، واستدل له بما في الصحيحين «اجتنبوا السبع الموبقات. الإشراك بالله تعالى. والسحر. وقتل النفس التي حرم الله تعالى إلا بالحق. وأكل مال اليتيم. وأكل الربا. والتولي يوم الزحف. وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» وقيل: خمس عشرة، وقيل: أربع عشرة، وقيل: أربع، وعن ابن مسعود ثلاث، وفي رواية أخرى عشرة، وقال شيخ الإسلام العلائي: المنصوص عليه في الأحاديث أنه كبيرة خمس وعشرون، وتعقبه ابن حجر بزيادة على ذلك، وقال أبو طالب المكي: هي سبع عشرة أربع في القلب. الشرك. والإصرار على المعصية. والقنوط. والأمن من المكر، وأربع في اللسان. القذف. وشهادة الزور. والسحر، وهو كل كلام يغير الإنسان أو شيئاً من أعضائه. واليمين الغموس وهي التي تبطل بها حقاً أو تثبت بها باطلاً، وثلاث في البطن. أكل مال اليتيم ظلماً. وأكل الربا. وشرب كل مسكر، واثنان في الفرج. الزنا. واللواط، واثنتان في اليد القتل. والسرقة، وواحدة في الرجل. الفرار من الزحف، وواحدة في جميع الجسد عقوق الوالدين، وفيه ما فيه، وروى الطبراني عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رجلاً قال له: كم الكبائر سبع هي؟ فقال هي إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع غير أنه لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار، وقد ألف فيها غير واحد من العلماء، وفي كتاب الزواجر تأليف العلامة ابن حجر ما فيه كفاية فليراجع، والله تعالى الموفق وإنا لنستغفره ونتوب إليه {إِنَّ رَبَّكَ واسع المغفرة} حيث يغفر الصغائر باجتناب الكبائر، فالجملة تعليل لاستثناء اللمم، وتنبيه على أن إخراجه عن حكم المؤاخذة ليس لخلوه عن الذنب في نفسه بل لسعة المغفرة الربانية، وجوز أن يكون المعنى له سبحانه أن يغفر لمن يشاء من المؤمنين ما يشاء من الذنوب صغيرها وكبيرها، ولعل تعقيب وعيد المسيئين ووعد المحسنين بذلك حينئذٍ لئلا ييأس صاحب الكبيرة من رحمته تعالى ولا يتوهم وجوب العقاب عليه عز وجل، وزعم بعض جواز كون الموصول مبتدأ وهذه الجملة خبره والرابط محذوف أي {واسع المغفرة} لهم ليس بشيء كما لا يخفى. {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ} أي بأحوالكم من كل أحد {إِذْ أَنشَأَكُمْ} في ضمن إنشاء أبيكم آدم عليه السلام. {مّنَ الارض} إنشاءاً إجمالياً حسبما مر تحقيقه، وقيل: إنشاؤهم من الأرض باعتبار أن المني الذي يتكونون منه من الأغذية التي منشؤها من الأرض، وأياً مّا كان فإذا ظرف لأعلم وهو على بابه من التفضيل. وقال مكي: هو بمعنى عالم إذ تعلق علمه تعالى بأحوالهم في ذلك الوقت لا مشارك له تعالى فيه، وتعقب بأنه قد يتعلق علم من أطلعه الله تعالى من الملائكة عليه، وقيل: {إِذْ} منصوب بمحذوف، والتقدير اذكروا {إِذْ أَنشَأَكُمْ} وهو كما ترى {وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ} ووقت كونكم أجنة {فِى بُطُونِ أمهاتكم} على أطوار مختلفة مترتبة لا يخفى عليه سبحانه حال من أحوالكم وعمل من أعمالكم التي من جملتها اللمم الذي لولا المغفرة الواسعة لأصابكم وباله، فالجملة استئناف مقرر لما قبلها وذكر {فِى بُطُونِ أمهاتكم} مع أن الجنين ما كان في البطن للإشارة إلى الأطوار كما أشرنا إليه، وقيل: لتأكيد شأن العلم لما أن بطن الأم في غاية الظلمة، والفاء في قوله تعالى: {فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ} لترتيب النهي عن تزكية النفس على ما سبق من أن عدم المؤاخذة باللمم ليس لعدم كونه من قبيل الذنوب بل لمحض مغفرته تعالى مع علمه سبحانه بصدوره عنكم أي إذا كان الأمر كذلك فلا تثنوا على أنفسكم بالطهارة عن المعاصي بالكلية أو بزكاء العمل وزيادة الخير بل اشكروا الله تعالى على فضله ومغفرته جل شأنه {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتقى} المعاصي جميعاً وهو استئناف مقرر للنهي ومشعر بأن فيهم من يتقيها بأسرها كذا في «الإرشاد»، وقيل: اتقى الشرك، وقيل: اتقى شيئاً من المعاصي، والآية نزلت على ما قيل: في قوم من المؤمنين كانوا يعملون أعمالاً حسنة ثم يقولون صلاتنا وصيامنا وحجنا وهذا مذموم منهي عنه إذا كان بطريق الإعجاب، أو الرياء أما إذا لم يكن كذلك فلا بأس به ولا يعد فاعله من المزكين أنفسهم، ولذا قيل: المسرة بالطاعة طاعة وذكرها شكر، ولا فرق في التزكية بين أن تكون عبارة وأن تكون إشارة وعدّ منها التسمية بنحو برّة، أخرج أحمد. ومسلم. وأبو داود. وابن مردويه. وابن سعد عن زينب بنت أبي سلمة أنها سميت برّة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزكوا أنفسكم الله أعلم بأهل البر منكم سموها زينب» وكذا غير عليه الصلاة والسلام إلى ذلك اسم برة بنت جحش، وتغيير مثل ذلك مستحب وكذا ما يوقع نفيه بعض الناس في شيء من الطيرة كبركة ويسار، والنهي عن التسمية به للتنزيه وقوله صلى الله عليه وسلم كما روى جابر: «إن عشت إن شاء الله أنهى أمتي أن يسموا نافعاً وأفلح وبركة» محمول كما قال النووي على إرادة أنهى نهي تحريم، والظاهر أن كراهة ما يشعر بالتزكية مخصوصة بما إذا كان الإشعار قوياً كما إذا كان الاسم قبل النقل ظاهر الدلالة على التزكية مستعملاً فيها فلا كراهة في التسمية بما يشعر بالمدح إذا لم يكن كذلك كسعيد وحسن، وقد كان لعمر رضي الله تعالى عنه ابنة يقال لها: عاصية فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم جميلة كذا قيل، والمقام بعد لا يخلو عن بحث فليراجع، وقيل: معنى لا تزكوا أنفسكم لا يزكى بعضكم بعضاً، والمراد النهي عن تزكية السمعة أو المدح للدنيا، أو تزكية على سبيل القطع، وأما التزكية لإثبات الحقوق ونحوه فهي جائزة، وذهب بعضهم إلى أن الآية نزلت في اليهود. أخرج الواحدي. وابن المنذر. وغيرهما عن ثابت بن الحرث الأنصاري قال: «كانت اليهود إذا هلك لهم صبي صغير قالوا: هو صديق فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كذبت يهود ما من نسمة يخلقها الله تعالى في بطن أمها إلا يعلم سعادتها أو شقاوتها» فأنزل الله سبحانه عند ذلك {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ} الآية.
{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33)} {أَفَرَأَيْتَ الذى تولى} أي عن اتباع الحق والثبات عليه.
{وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34)} {وأعطى قَلِيلاً} أي شيئاً قليلاً، أو إعطاءاً قليلاً {وأكدى} أي قطع العطاء من قولهم حفر فأكدى إذا بلغ إلى كديه أي صلابة في الأرض فلم يمكنه الحفر، قال مجاهد. وابن زيد: نزلت في الوليد بن المغيرة كان قد سمع قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلس إليه ووعظه فقرب من الإسلام وطمع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إنه عاتبه رجل من المشركين، وقال له: أتترك ملة آبائك؟ا ارجع إلى دينك وأثبت عليه وأنا أتحمل عنك كل شيء تخافه في الآخرة لكن على أن تعطيني كذا وكذا من المال فوافقه الوليد على ذلك ورجع عما هم به من الإسلام وصل ضلالاً بعيداً، وأعطى بعض المال لذلك الرجل ثم أمسك عنه وشح، وقال الضحاك: هو النضر بن الحرث أعطى خمس قلائص لفقير من المهاجرين حتى ارتد عن دينه وضمن له أن يحمل عنه مأثم رجوعه، وقال السدي: نزلت في العاص بن وائل السهمي كان يوافق النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأمور، وقال محمد بن كعب: في أبي جهل قال: والله ما يأمر محمد إلا بمكارم الأخلاق، والأول هو الأشهر الأنسب لما بعده من قوله سبحانه:
{أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35)} {عِلْمُ الغيب فَهُوَ} إلى آخره، وأما ما في «الكشاف» من أنها نزلت في عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه كان يعطي ماله في الخير فقال له عبد الله بن سعيد بن أبي سرح: يوشك أن لا يبقى لك شيء فقال عثمان: إن لي ذنوباً وخطايا وإني أطلب بما أصنع رضا الله تعالى وأرجو عفوه فقال عبد الله: أعطني ناقتك برحلها وأنا أحمل عنك ذنوبك كلها فأعطاه وأشهد عليه وأمسك عن العطاء فباطل كما قال ابن عطية ولا أصل له، وعثمان رضي الله تعالى عنه منزه عن مثل ذلك، و{أَفَرَأَيْتَ} [النجم: 33] هنا على ما في «البحر» بمعنى أخبرني ومفعولها الأول الموصول، والثاني: الجملة الاستفهامية، والفاء في قوله تعالى: {فَهُوَ يرى} للتسبب عما قبله أي أعنده علم بالأمور الغيبية فهو بسبب ذلك يعلم أن صاحبه يتحمل عنه يوم القيامة ما يخافه، وقيل: يرى أن ما سمعه من القرآن باطل، وقال الكلبي: المعنى أأنزل عليه قرآن فرأى أن ما صنعه حقه، وأياً مّا كان فيرى من الرؤية القلبية، وجوز أن تكون من الرؤية البصرية أي فهو يبصر ما خفى عن غيره مما هو غيب.
{أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36)} {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ} أي بل ألم يخبر. {بِمَا فِى صُحُفِ موسى} وهي التوراة.
{وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37)} {وإبراهيم} وبما في صحف إبراهيم التي نزلت عليه {الذى وفى} أي وفر وأتم ما أمر به، أو بالغ في الوفاء بما عاهد عليه الله تعالى، وقال ابن عباس: وفي بسهام الإسلام كلها ولم يوفها أحد غيره وهي ثلاثون سهماً منها عشرة في براءة {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وأموالهم} الآيات، وعشرة في [الأحزاب: 35] {إِنَّ المسلمين والمسلمات} الآيات، وست في قد أفلح المؤمنون الآيات التي في أولها، وأربع في سأل سائل {والذين يُصَدّقُونَ بِيَوْمِ الدين} [المعارج: 26] الآيات، وفي حديث ضعيف عن أبي أمامة يرفعه، «وفيّ بأربع ركعات كان يصليهن في كل يوم» وفي رواية «يصليهن أول النهار» وأخرج أحمد من حديث معاذ بنأنس مرفوعاً أيضاً «إِلا أخباركم لَمْ رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ وَأَمَّا الذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بئاياتنا وَلِقَاء الاخرة فَأُوْلَئِكَ فِى العذاب مُحْضَرُونَ فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} الآية» وقال عكرمة: {وَفِى} بتبليغ هذه العشرة {ألا تزر} [النجم: 38] إلى آخره {وَقِيلَ وَقِيلَ} والأولى العموم وهو مروي عن الحسن قال: ما أمره الله تعالى بشيء إلا وفى به وتخصيصه عليه السلام بهذا الوصف لاحتماله ما لا يحتمله غيره، وفي قصة الذبح ما فيه كفاية وخص هذان النبيان عليهما السلام بالذكر قيل: لأنه فيما بين نوح. وإبراهيم كانوا يأخذون الرجل بابنه وبأبيه وعمه وخاله، والزوج بامرأته، والعبد بسيده فأول من خالفهم إبراهيم وقرر ذلك موسى ولم يأت قبله مقرر مثله عليه السلام، وتقديمه لما أن صحفه أشهر عندهم وأكثر، وقرأ أبو أمامة الباهلي. وسعيد بن جبير. وأبو مالك الغفاري. وابن السميقع. وزيد بن علي {وفى} بتخفيف الفاء.
|